على الخط الفاصل بين المرفأ والكرنتينا في العاصمة اللبنانية، منزل صغير مكوّن من طابقين، لا تزيد مساحة طابقه السفلي عن 30 متراً، فيما الطابق العلوي غرفة صغيرة تتسع لشخص واحد.
المنزل صغير لكنه مُلفت للنظر، يظهر كأنه مساحة خضراء وسط صحراء قاحلة، من حوله أبنية غير مكتملة، أتى عليها الانفجار، فصارت مثل أبنية بيروت ما بعد الحرب الأهلية اللبنانية.
تخرج دانا من الطابق العلوي، ليست بحاجة للحديث كي يظهر حجم الغضب الذي يختلج في داخلها، غضب ممزوج بالحزن والاستسلام. معادلة من الصعب فهمها إلا لمن هم فعلياً في ذلك المكان.
وجه دانا خليط من ذلك كله وأكثر، هي باختصار تبدو مكتئبة، على غرار كل شيء بات كئيبا في المرفأ وحوله.
تهبط من الطابق الثاني، وتجلس على كرسي بلاستيكي، تقول حتى قبل التحية: “ماذا تريد أن تعرف؟ أنظر حولك. هنا الجحيم، أهلاً وسهلاً”.
دانا، عابرة جنسياً كانت تنعم بحياة جميلة، كل ما فيها مفرح.. تعمل وتجني المال ولديها أصدقاء ومعارف كُثر. في النهار تنكب على عملها في التجميل، وليلاً تخرج لتستمتع بالموسيقى والأصدقاء.
تصمت دانا قليلاً ثم تتحدث عن “أصدقاء خسرتهم جميعاً”، أو بالأحرى تبيّن لها أنهم لم يكونوا فعلا أصدقاء: “كانوا يستغلون كرمي. اليوم لا أرى أحدا منهم، كأنهم اختفوا أو لم يمرّوا أساساً في حياتي”.. تخرج الكلمات من فمها بصعوبة.
حين وقع الانفجار، كانت وصديقها في المنزل، لا تعرف كيف نجيا سويا.. قرب البيت من المرفأ يجعل فرصة النجاة شبه مستحيلة، وحده المبنى المهجور المواجه لمنزلها قد يحمل الجواب الشافي في درء جزء من ضغط الانفجار عن منزلها الصغير، الذي يبدو حتى بعد ترميمه، ضعيف القدرة على الصمود أمام المطر، فكيف الحال بوجه المواد الكيماوية شديدة الاشتعال.
طوال 3 أيام عقب الانفجار، راحت وصديقها يبحثان عن مستشفى يداوي جراحهما حتى بلغا صيدا، وهناك خضعا للعلاج، ثم ظهرت مأساة أخرى: لم تستطع دانا أن تحصل على الأكل لأكثر من يومين، كانت تجلس أمام منزلها المهدم، وتسأل ماذا بعد؟ خسرت دانا كُل شي في ثوانٍ. كانت الحياة حلوة. انتهى ذلك الزمن.
المبنى المواجه لمنزلها، كان ملاذها لأيام طوال. المبنى يُذكر بأيام الحرب، وبمراحل سوداء كثيرة من تاريخ لبنان، كان المأوى الذي لجأت إليه دانا التي رفضت الخروج من المنطقة ومن منزلها ومحيطه.
“سرقت” من مكان قريب بعض الأخشاب التي تُستخدم في البناء، ونصبت ما يُشبه الخيمة على زاوية المبنى المزعوم، ونامت أياما وليالٍ، في بقعة محاطة بكُل أنواع الركام والردم، نامت وعينها ساهرة على منزل صار من الماضي. (أعاد برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بناء المنزل لاحقاً).
حين بدأت مرحلة إعادة الإعمار، التي تولتها جمعيات ومؤسسات أهلية أجنبية، انتظرت دانا من يأتي من “بلدها” ليسأل عنها. هذا لم يحدث. انتظرت طويلاً وهي تنام إلى جانب ركام منزلها، كان هناك من يأتي بحجة المساعدة، يسأل “أنت رجل أو فتاة”. دانا تفقد أعصابها حين تسمع هذا السؤال: “ما علاقة هكذا سؤال بالمساعدة، أو بما أحتاج إليه؟ لا منزل ولا أكل ولا شرب ولا مال ولا حتى هاتف. ثم يسألونني إن كنت فتاة أو رجلاً”.
تقول دانا: “يأتي كُثيرون يقولون إنهم هنا للمساعدة. يلتقطون لي صورا ويتصورون معي، ويسمعونني كلاما جميلا، فأبدأ بنسج أحلام كبيرة، ثم يتبخرون تماماً ومعهم الأحلام، لا أصدق أحداً. كلهم كاذبون”.
بعد كل صورة تنشر لها، تتعرض دانا وأهلها للشتائم، تعتب على الجمعيات التي تُعنى بالمثليين والمتحولين جنسياً، تقول: “حلم” (جمعية اللبنانية تعمل على تحسين الوضع القانوني والاجتماعي للمثليين والعابرين جنسياً) ساعدتني لشهرين ثم اختفت. يقولون إنهم مع المثليين ولكن أين هم”؟
غاضبة هي وحانقة على كل ما حولها. لا شيء جيد، الانفجار أتى على كُل ما تبقى لديها من أمل أو قدرة على الحياة.
يقول المدير التنفيذي في “حلم” طارق زيدان: “لا أستطيع أن أذكر الأسماء (التي تلقت مساعدات منا) لأن هذا اختراق لخصوصية الأفراد. لكن ما أستطيع تأكيده أننا ساعدنا دانا كما نساعد 4 آلاف شخص غيرها. نُساعد على قدر ما نستطيع وأكثر. ولكن في النهاية نحن لا نستطيع أن نقوم محل الدولة. هذه الجريمة تتحمل مسؤوليتها السلطة التي يجب أن تحاسب وتتحمل مسؤولية ما اقترفته بحق الناس ومجتمع الميم من ضمن هؤلاء الناس.. ويعاني أكثر بكثير”.
وبخلاف “حلم” ظهرت جمعية أخرى سألتها عما تريده؟ قالت إنها بحاجة إلى خبز وعلبة تونا يومياً، فاختفى مندوبها.
آخرون سألوها، فطلبت أن يذهبوا إلى دكان في أول الشارع ويدفعوا ما تراكم عليها من ديون. سألت صاحب الدكان في اليوم التالي إن كان أحد قد جاء ودفع حسابها. فأجاب بالنفي. خيبات الأمل التي تعرضت لها دانا في سنة لا تنتهي. هي الآن لا تنتظر أي شيء. تقول: “لا أريد أن أحيا”.
قبل الانفجار لم تشعر أنها منبوذة أو أن هويتها الجنسية كانت تهمة أو محل تنمر أو تمييز. تغير الواقع الآن. صارت عرضة لكل أنواع التمييز. إلى جانب المنزل الصغير، مساحة لا بأس بها تُربي فيها الدجاج. تركض إلى مدخل الدار تتناول كيس قمامة وتضعه على الطاولة. تفتحه وتُخرج منه الخبز القديم الذي أكله العفن. تقول: “أجول على الحاويات وأجمع الخبز كي أطعم الدجاجات وأحصل على البيض وآكل”.
على زاوية الطاولة صحن صغير فيه القليل من الزيتون الجاف. هذا ما تبقى لها لتتناوله في يوم آخر من أيامها المشؤومة.
بالنسبة لدانا “الكل سارق”، لو سَمِعت شقيقها يقول إنه سيأتيها بالمساعدة سترد عليه بأنه كاذب. السلطة كما تراها اليوم عبارة عن مجموعة من السارقين والمجرمين: “إذا الناس تسرق بعضها البعض فكيف الحال لمن هم في موقع السلطة”؟ تسأل باستغراب.
تجول دانا على الجنود في محيط منزلها، تأخذ من كل واحد سيجارة، وتعود إلى المنزل، لتنتظر نهاراً جديداً.. بالبؤس ذاته.
المصدر الحرة
تابع كل المواضيع و الأخبار التي تهمك الان على واتساب اضغط على الرابط التالي https://n247.co/wp