العدالة الانتقائية.. البشر يفسرون ‘الكارما’ حسب الحاجة

كشفت دراسة حديثة، نُشرت في دورية “الجمعية الأميركية لعلم النفس” (American Psychological Association)، أن الناس يفسّرون تأثير “الكارما” عليهم وعلى الآخرين بطريقة مختلفة، تُخفي تحيّزاً نفسياً.
وفق الدراسة، يُرجِع أغلب الناس ما يحدث لهم من أمور جيدة إلى “استحقاق كوني”، بينما ينظرون إلى ما يصيب الآخرين من مشكلات على أنه “عقاب إلهي مستحق”.
ينتشر مفهوم “الكارما” في مختلف أنحاء العالم، حيث يؤمن كثيرون بأن “ما يفعله أو يقدمه الإنسان يعود إليه سواء كان جيداً أو سيئاً”.
ويفسر كثير من الناس حول العالم ما يمرون به في حياتهم على أنه نتيجة مباشرة لأفعالهم السابقة، وفقاً لمبدأ “الكارما”، فالأعمال الطيبة تزيد من احتمالية حدوث أمور جيدة في المستقبل، بينما تزيد الأفعال السيئة من احتمالية وقوع مصائب لاحقة، حتى عندما تكون العلاقة بين الفعل والنتيجة غير واضحة، أو تمتد على مدى زمني طويل.
مبادئ الكارما
وباعتبارها رؤية شاملة للعالم، يمكن تطبيق مبادئ “الكارما” لتفسير أي نوع من التجارب، سواء تعرّض لها الشخص نفسه، أو أصابت غيره.
ومع ذلك، تشير الأبحاث إلى أن الناس لا يطبقون تفسير “الكارما” بالتساوي في كل المواقف، بل يختارونه في مواقف معينة أكثر من غيرها، نظراً لما يقدمه لهم من رضا نفسي.
وتُعد “الكارما” واحدة فقط من بين عدة أطر تفسيرية يعتمد عليها المؤمنون بها، إلى جانب تفسيرات أخرى دينية، أو طبيعية، وهذا يعني أن نوع الحدث وطبيعته قد يجعلان تفسيره بـ”الكارما” أكثر، أو أقل احتمالاً بحسب السياق.
وتفترض الدراسة أن الأشخاص المؤمنين بـ”الكارما” يميلون إلى تفسير تجاربهم الإيجابية على أنها “نتيجة كارمية” لأفعالهم الحسنة؛ لأن هذا يعزز شعورهم بالاستحقاق، ويقوي تقدير الذات لديهم. أما حين يتعلق الأمر بتجارب سلبية، فيكونون أكثر استعداداً لنسبها إلى الكارما إذا وقعت للآخرين، خاصة عندما يُنظر إلى هذه المعاناة على أنها عقوبة عادلة ومُستحقة.
وأجرت الدراسة 3 تجارب بحثية لاختبار هذا التحيّز العاطفي في تفسير الأحداث، من خلال مقارنة ما إذا كانت أحداث الكارما الموجهة للذات تُوصف بإيجابية أكبر من تلك التي تُنسَب للآخرين.
الإيمان بالكارما أداة عقلية
أجرت الدراسة الباحثة، سيندل وايت، من جامعة يورك الكندية، بالتعاون مع عدد من زملائها، بهدف تحليل العلاقة بين المعتقدات الكارمية والدوافع النفسية لدى الأفراد.
وأشارت النتائج إلى أن الإيمان بـ”الكارما” غالباً ما يُستخدَم كأداة عقلية لدعم النظرة الإيجابية للذات، وتفسير معاناة الآخرين على أنها نتيجة أفعالهم السيئة.
وشملت الدراسة عدة تجارب شارك فيها أكثر من 2000 شخص من الولايات المتحدة وسنغافورة والهند، وجاءت نتائجها متقاربة في أغلب الحالات.
في إحدى التجارب، طُلب من 478 مشاركاً أميركياً يؤمنون بـ”الكارما”، ينتمون لخلفيات دينية متعددة، أن يكتبوا عن تجربة كارمية وقعت لهم، أو لأشخاص آخرين، فاختار 86% من المشاركين الكتابة عن تجاربهم الشخصية، 59% منهم كتبوا عن تجارب إيجابية اعتبروها نتيجة لأفعالهم الجيدة. أما من كتبوا عن تجارب الآخرين، فركّز 92% منهم على أحداث سلبية.
وفي تجربة أخرى، طُلب من أكثر من 1200 مشارك، من دول متعددة، الكتابة عن تجارب إما ذاتية، أو تخص أشخاصاً آخرين. وظهر نفس النمط، إذ كتب 69% من الذين تحدّثوا عن أنفسهم عن تجارب إيجابية، بينما كتب 18% فقط من الذين تحدّثوا عن غيرهم عن أحداث إيجابية، والباقي عن تجارب سلبية.
كما أظهرت تحليلات إلكترونية لنبرة الكلمات المستخدمة أن المشاركين استخدموا عبارات إيجابية أكثر عند الحديث عن أنفسهم، في حين غلبت النبرة السلبية عند الحديث عن الآخرين.
النظرة الإيجابية للذات
ولاحظت الدراسة وجود فروقات طفيفة بين الثقافات، إذ كان الانحياز الإيجابي إلى الذات أقوى بين المشاركين الأميركيين، وأقل وضوحاً لدى المشاركين من الهند وسنغافورة.
وفسّرت الباحثة ذلك بكون “الثقافات الشرقية أكثر ميلاً للنقد الذاتي، مقارنة بالثقافات الغربية التي تعزز النظرة الإيجابية للذات”.
وأوضحت وايت أن الإيمان بـ”الكارما” لا يقتصر على كونه معتقداً دينياً، أو روحانياً، بل يعمل أحياناً كآلية عقلية لتفسير الحياة بطريقة تُرضي الإنسان نفسياً.
وتابعت بالقول: “الإيمان بالكارما يساعد الناس على تقبّل ما يحدث لهم من أمور جيدة بوصفها مكافأة مستحقة، حتى إن لم تكن أسبابها واضحة، كما يجعلهم ينظرون إلى معاناة الآخرين على أنها نتيجة مستحقة لأفعالهم. وهو ما يحقق رغبتين: الشعور بالاستحقاق الشخصي، والإحساس بوجود عدالة في العالم”.
التفكير الكارمي
ويعكس هذا النمط التفسيري الداخلي للتفكير الكرمي أن المعتقدات الكارمية عرضة لتأثير دوافع نفسية أخرى، تؤثر على تفسير الأحداث المتعلقة بالذات والآخرين.
على سبيل المثال، يمكن أن تساعد التفسيرات الكارمية في التعامل مع عدم اليقين، وتعزيز الشعور بالثقة والتحكم في الحياة، مثل إيمان الأشخاص بأن الاستثمار في الأعمال الجيدة، والعمل الجاد، سيجلب نتائج إيجابية في المستقبل، كما يمكن للمعتقدات الكارمية أن تلبي دوافع العدالة من خلال جعل الأشخاص يشعرون بأن الأفعال السيئة قد تلقت عقاباً عادلاً، حتى لو لم يصدر هذا العقاب عن بشر.
ومن المرجَّح أن تظهر هذه الدوافع النفسية بشكل مختلف عند تقييم الأحداث الكارمية التي تحدث للذات، بسبب التحيّزات الذاتية التي تظهر عندما يفكر الأشخاص في مسؤوليتهم الشخصية عن التجارب الجيدة مقابل السيئة.
وتشير أدلة كثيرة إلى أن العديد من الأشخاص، خاصة في السياقات الثقافية الغربية، يحافظون على أوهام إيجابية عن الذات، ولديهم تحيّزات إيجابية لصالح أنفسهم في التفسيرات.
على سبيل المثال، يميل هؤلاء الأشخاص إلى رؤية أنفسهم أفضل من المتوسط في العديد من الجوانب الذاتية، فمن المرجح أن يتذكر الأفراد في هذه السياقات الأحداث الإيجابية أكثر من السلبية في حياتهم الخاصة، بينما يتذكرون أحداثاً سلبية أكثر في حياة الآخرين، كما أنهم أكثر تفاؤلاً بشأن نتائجهم المستقبلية مقارنة بنتائج الآخرين.
التحيزات الذاتية
وفي المجال الأخلاقي، يعتبر الكثيرون أنفسهم أكثر إيجابية بكثير مما يرون الآخرين، وغالباً ما ينظر الأشخاص إلى “ذواتهم الحقيقية” على أنها أخلاقية بدرجة جيدة، ويُفسرون أفعالهم غير الأخلاقية السابقة بطرق تقلل من خطورة الذنب، ويميلون إلى نسب النتائج السلبية الخاصة بهم إلى عوامل خارجية.
في المقابل، يرون أن “الذوات الحقيقية” للآخرين أقل أخلاقية، وينسبون النتائج السلبية لهؤلاء إلى عوامل داخلية.
ونتيجة لهذه التحيزات الذاتية في أحكام الأشخاص حول أفعالهم، قد تكون تجارب المكافآت الكارمية للسلوك الجيد أكثر بروزاً نفسياً، وجاذبية من حالات العقاب الكارمي للسلوك السيئ.
وقد يكون التفكير في المكافآت الكارمية بارزاً بشكل خاص في الحياة اليومية، عندما يكون المؤمنون منخرطين في اتخاذ قرارات أخلاقية، ويمكن تحفيزهم للانخراط في سلوك اجتماعي إيجابي، لزيادة فرصهم في تحقيق نتائج مستقبلية جيدة.
وقد تكون إمكانية المكافآت الكارمية للسلوك الجيد أقل بروزاً عند تقييم أفعال الآخرين؛ لأن الأشخاص أقل تحفيزاً لصنع تفسيرات إيجابية مبالغ فيها لسلوك الآخرين، وأكثر تحفيزاً لرؤية الآخرين يتلقون عقوبات كونية على أفعالهم السيئة.
وقال الباحثون في الدراسة إن هذه الدوافع البديلة ستؤدي إلى تباينات في بروز “الكارما” الجيدة مقابل السيئة في حياة الذات مقابل الآخرين.
فكرة السببية الكارمية
وأكدوا أن فكرة “السببية الكارمية” موجودة في العديد من السياقات الثقافية المتنوعة، وتتماشى مع مفهوم العالم العادل الأوسع، الذي يؤيده الأشخاص في كل من الدول الآسيوية والغربية.
وهناك العديد من الأدلة التي تؤكد أن تحيزات تعزيز الذات في التصور قوية بشكل خاص في الثقافات الغربية، وتكون مخفَّفة، أو حتى معكوسة في العينات الآسيوية.
ومقارنة بالعينات من أصل أميركي شمالي، أو أوروبي، فإن العينات الآسيوية بشكل عام أكثر انتقاداً لذاتها، وأكثر ميلاً لاعتبار نفسها مسؤولة شخصياً عن الأشياء السيئة التي تحدث لها، ولديها تحيّزات إيجابية أضعف في تصور الذات.
ومع ذلك، تشير دراسات أخرى إلى أن العينات الآسيوية تُظهر أيضاً تحيّزات لصالح الذات، كما يعتقدون أن ذواتهم أفضل من الآخرين، ويتوقعون وقوع أحداث سلبية للآخرين أكثر من أنفسهم.
وذكرت الدراسة أنه “إذا لعبت دوافع تعزيز الذات دوراً في كيفية صنع الأشخاص للتفسيرات الكارمية، فقد يكون أي تحيّز إيجابي في طريقة تفكير الأشخاص حول تجاربهم الكارمية أقوى في العينات الأميركية الشمالية، وأضعف في العينات الآسيوية”.
وخلصت الدراسة إلى أن المعتقدات الروحية، مثل “الكارما”، قد تُستخدَم لتعزيز الشعور بالهوية الأخلاقية، والطمأنينة النفسية، خاصة حين تعجز التفسيرات العقلانية، أو الواقعية عن إعطاء إجابات مُرضية لما يحدث في الحياة اليومية.