دراسة تكشف قواعد تحديد مصير النملة داخل المستعمرة.. ملكة أو عاملة

توصلت دراسة علمية حديثة إلى الآليات البيولوجية المعقدة التي تُحدد الأدوار الاجتماعية والأنماط الجسدية المختلفة داخل مستعمرات النمل.
وانتهت الدراسة المنشورة في دورية الأكاديمية الأميركية للعلوم، إلى وجود علاقة مباشرة وحاسمة بين الحجم النهائي الذي تبلغه النملة أثناء تطورها، وطبقتها الاجتماعية المحددة؛ سواء كانت ملكة أو عاملة.
وأكدت الدراسة أن التكوين الجيني للنملة يلعب دوراً محورياً في رسم هذا المسار، ليس فقط بالتأثير على حجمها، بل بتحديد العتبة الوراثية التي تجعلها تصل إلى حجم معين يؤهلها للتحول إلى ملكة، كما وضحت الكيفية التي تتضافر بها الجينات والنمو لتشكيل الأدوار المتخصصة لكل فرد داخل نظام المستعمرة المعقد، فالملكات تنمو لتصبح كبيرة الحجم، وتنمو لها أجنحة، وتضع البيض، بينما تظل العاملات صغيرة الحجم، ودون أجنحة، وتؤدي مهام العمل الجاد.
لكن كيفية تطور هذه الطبقات، وكيف يحدد مستقبل النملة الصغيرة بواسطة الوراثة والبيئة، ظل أمراً غير واضح.
الحجم والطبقة الاجتماعية
أفادت الدراسة الجديدة بأن حجم الجسم والطبقة الاجتماعية يسيران جنبًا إلى جنب؛ إذ يصبح النمل الأكبر حجمًا ملكات، بينما يصبح النمل الأصغر حجمًا عاملات، وتؤثر كل من الجينات والبيئة على مدى نمو النملة.
وتشير النتائج أيضًا إلى أن العوامل الوراثية وحدها هي التي تحدد الشروط اللازمة لتصبح النملة ملكة؛ فعبر المستعمرات المختلفة، يمكن أن يختلف النمل المتطابق وراثيًا من نفس الحجم، والذي نشأ في البيئة نفسها، في الشكل الخارجي والسمات الجسدية المميزة التي تظهر على كائن حي معين بناءً على الطبقة الاجتماعية أو الوظيفية التي ينتمي ليها داخل مجتمعه.
وتثبت هذه النتائج أن الجينات لا تؤثر فقط على الحجم، بل تُغير أيضًا ما يعنيه حجم معين للمستعمرة. فمن الممكن أن يكون لنملتين صغيرتين نسبيًا احتمالات مختلفة تمامًا لتصبحا ملكتين.
وقال المؤلف الرئيسي للدراسة دانييل كروناور، الباحث في جامعة روكفلر الأميركية: “أحد أهدافنا هو فهم كيفية عمل مجتمع الحشرات، إن دراسة كيفية تمايز الأفراد في المستعمرة يمكن أن تثري فهمنا لأنواع أنظمة الطبقات، من الملكات إلى العاملات إلى الجنود، التي يمكن أن تتطور في آلاف أنواع النمل الموجودة”.
في عالم النمل فإن الملكة ليست مجرد نملة عاملة كبيرة الحجم؛ فبالإضافة إلى حجم جسمها الأكبر، عادة ما تنمو للملكات أجنحة، وتتطور لديها أنظمة بصرية أكثر تعقيدًا، ومبايض كبيرة لوضع البيض، بينما تظل العاملات دون أجنحة، وصغيرة الحجم، وعادة ما تمتنع عن التكاثر.
وهذا الاختلاف الصارخ بين أفراد متطابقين وراثيًا هو مثال كلاسيكي على “اللدونة التنموية” والتي تعني قدرة الكائن الحي على تغيير نموه أو نمطه الظاهري استجابةً للتغيرات في بيئته، وذلك على الرغم من امتلاكه لنفس النمط الجيني.
وبالتالي فإن إناث النمل تعد نموذجا ممتازا لدراسة كيف يمكن لنمط جيني واحد أن ينتج أنماطًا ظاهرية مختلفة بشكل كبير.
اشتبه بعض العلماء في إمكانية فصل حجم الجسم عن مسألة ما إذا كانت النملة ستصبح ملكة، وكانت هذه النظرية منطقية؛ ففي ذباب الفاكهة، وكذلك في الحشرات الأخرى، يتم تنظيم السمات الجسدية بشكل عام إلى حد ما بواسطة العوامل البيئية بشكل مستقل عن حجم الجسم. لكن الدراسة الأحدث توصلت إلى أن النمل، على عكس الحشرات الأخرى، يحافظ دائمًا على سمات الطبقة متوافقة مع حجم الجسم.
النمل الغازي المستنسخ
لجأ فريق البحث إلى أحد أنواع النمل الغازي المستنسخ وهو نمل غريب يعيش في مستعمرات صغيرة لا تحتوي على ملكة، جميع أفرادها إناث يتكاثرن بالاستنساخ، أي دون الحاجة إلى تزاوج أو وجود ذكور.
وهذا يعني أن كل نملة تنجب نسخة جينية مطابقة لها تمامًا، وهو ما يجعل المستعمرة بأكملها تتكوّن من نسخ وراثية متطابقة.
وتتميز هذه النملة بسلوك جماعي دوري لافت، إذ تمر المستعمرة بدورتين منتظمتين؛ الأولى للتكاثر ووضع البيض، والثانية تُعرف بالغارة، حيث تنطلق النملات في هجمات جماعية على أعشاش الحشرات الأخرى، خصوصًا يرقات النمل، لجلب الغذاء وتغذية يرقاتهن.
وأثار هذا النوع اهتمام الباحثين لأنه يُشكل نموذجًا فريدًا لدراسة السلوك الاجتماعي في الحشرات دون وجود ملكة أو تنوع جيني، ما يتيح للعلماء فحص تأثير البيئة والعوامل الهرمونية وحدها في تحديد أدوار الأفراد داخل المستعمرة، بعيدًا عن تأثير الجينات المختلفة المعتاد في بقية أنواع النمل.
وقال المؤلف المشارك باتريك بيكارسكي، إن هذا النوع نموذج جيد للدراسة بفضل تكاثره الاستنساخي ودورة حياته المتزامنة، ما يسمح بالتحكم الدقيق في المتغيرات الوراثية والبيئية.
وعلى الرغم من أن النمل الغازي المستنسخ يفتقر إلى الملكات التقليدية، إلا أن الأفراد المعروفين باسم الطبقات البينية يعتبرون متماثلين تنمويًا للملكات؛ فهم ينمون بشكل أكبر، وتتطور لديهم مبايض أكبر بالإضافة إلى عيون قوية ووجود أجنحة بسيطة.
وقال كروناور: “مع النمل الغازي المستنسخ يمكننا القيام بما يعادل دراسة توأم متطابقة ضخمة لتحديد كيف تؤثر البيئة على النمط الظاهري للبالغين”.
ولإجراء الدراسة، بدأ الباحثون تثبيت النمط الجيني لليرقات والتلاعب ببيئة التربية، وأظهر العمل السابق أن توافر الغذاء ودرجة الحرارة والنمط الجيني للنمل المسؤول عن رعاية اليرقات يمكن أن تؤثر جميعها على تطور الطبقة ووجدوا أن كل من هذه العوامل أثرت بالفعل على النتيجة، ولكن فقط عندما أدت أيضًا إلى تغيير الحجم النهائي ليرقة النملة.
ووجد الباحثون علاقة قوية جدًا ومباشرة بين حجم اليرقة -النملة في مرحلة التطور المبكرة- والطبقة الاجتماعية التي ستنتمي إليها عندما تصبح بالغة؛ سواء كانت ملكة أو عاملة.
فالنملة التي تصل إلى حجم معين أثناء نموها، يكاد يكون مؤكدًا أنها ستتطور إلى ملكة، بينما النملة التي لا تتجاوز حجمًا معينًا ستتطور إلى عاملة.
الأنماط الجينية
وقال الباحثون إن الحجم أصبح مؤشرًا موثوقًا للغاية، أو “متنبئًا”، بالدور المستقبلي للنملة في المستعمرة، فكلما زاد حجم اليرقة، زادت احتمالية أن تصبح ملكة ذات خصائص مورفولوجية ووظيفية مميزة؛ مثل الأجنحة والمبايض الكبيرة، والعكس صحيح بالنسبة لليرقات الأصغر التي تتطور إلى عاملات.
ويشير هذا الارتباط القوي إلى أن العوامل البيئية التي تؤثر على حجم اليرقة تلعب دورًا حاسمًا في توجيه مسار تطورها نحو طبقة معينة، وأن هذا التأثير على الحجم هو المفتاح لتحديد الطبقة، وليس أي عامل بيئي آخر يؤثر بشكل مستقل على سمات الطبقة دون التأثير على الحجم.
بعد ذلك، قارن الفريق بين أنماط جينية مختلفة لليرقات التي جرى تربيتها في ظروف بيئية متشابهة لتحديد ما إذا كانت الاختلافات الوراثية يمكن أن تغير العلاقة الأساسية التي تربط حجم الجسم بسمات الطبقة، وجدوا أنه بينما يمكن للجينات أن تؤثر على الحجم، يمكن للجينات أيضًا أن تغير الحجم الذي تبدأ عنده السمات الشبيهة بالملكة في الظهور.
على سبيل المثال، نمت النملات من سلالة جينية معينة -مُشار إليها في الدراسة بالرمز “M”- باستمرار إلى أحجام أجسام أصغر في المتوسط من تلك الموجودة في سلالة أخرى -مُشار إليها بالرمز “A”- حتى عند تربيتها في ظروف بيئية متطابقة، ولكن، لأي حجم جسم معين، كانت النملات من سلالة M لا تزال أكثر عرضة لتطوير سمات شبيهة بالملكة.
وقال الباحثون إن الدراسة تثبت أنه يمكن أن يكون لنملتين صغيرتين، واحدة من سلالة M والأخرى من سلالة A، احتمالات مختلفة تمامًا لتصبحا ملكتين، بغض النظر عن بيئة التربية.
ويشير هذا إلى أن التباين الوراثي يمكن أن يؤثر على مورفولوجيا الطبقة بطريقتين؛ من خلال التأثير على مدى نمو النمل، ومن خلال تعديل الحجم الذي يتم عنده التعبير عن السمات الشبيهة بالملكة.
واعتبر بيكارسكي، أن هذا الاكتشاف “توضيح مثير للاهتمام أن بعض الأنماط الجينية تبدأ في الظهور بشكل أكثر شبهاً بالملكة عند أحجام أجسام أصغر”.
وأضاف، أن الاستنتاج الرئيسي للدراسة هو أنه “إذا أثر عامل بيئي ما على الطبقة، فسوف يؤثر على الحجم أيضًا، ولا يمكن إحداث تغيير في أحدهما دون الآخر”.
أبرز نتائج الدراسة
النملة التي تصل إلى حجم جسدي معين أثناء النمو تصبح ملكة، بينما النملة الأصغر حجمًا تصبح عاملة.
الحجم مؤشر موثوق لتحديد الطبقة داخل المستعمرة.
الجينات تحدد المرحلة التي يُعتبر عندها الحجم كافيًا للتحول إلى ملكة.
البيئة تؤثر على حجم الجسم عبر الغذاء، والحرارة، ورعاية اليرقات، لكنها لا تحدد الطبقة بشكل مباشر دون التأثير على الحجم.
نملتان متطابقتان وراثيًا في نفس البيئة ومع ذلك ربما تنتهيان بأدوار مختلفة إذا اختلف حجم نموهما.
تختلف الملكات والعاملات في الوظائف والأعضاء: للملكة أجنحة، مبايض كبيرة، جهاز بصري متطور.
لا يوجد عامل بيئي يؤثر على الطبقة دون أن يؤثر على حجم الجسم.
كانت دراسة سابقة لنفس الفريق البحثي؛ ونشرت في دورية “ساينس”، كشفت عن وجود جين فريد، أُطلق عليه اسم “ILP2″، هو المسؤول عن إفراز هرمون يمنح الملكة خصوبة استثنائية؛ وقدرة على وضع البيض باستمرار طوال حياتها، في الوقت الذي يقتصر تكاثر بقية النمل على مرة واحدة فقط، ما يحولها إلى عاملات يكرّسن حياتهن لخدمة الملكة ورعاية ذريتها.
وتتجاوز آثار الدراسة تحديد الطبقة؛ فمستعمرات النمل في الحقيقة مثال على أنظمة بيولوجية معقدة يتولى فيها أفراد متطابقون وراثيًا أدوارًا مختلفة بشكل كبير، تمامًا مثل الخلايا في الأنسجة؛ وباستخدام النمل كنموذج، يربط العلماء دراسة بيولوجيا التطور بالسلوك والتنظيم الاجتماعي.
وقال كروناور، إن أدمغة الملكة والعاملة مختلفة تمامًا، وهذا يرتبط باختلافات صارخة في السلوك؛ إذ تغادر العاملات العش للبحث عن الطعام، وتعتني باليرقات، وتبني وتوسع العش؛ بينما تقوم الملكة في الغالب بالتزاوج ووضع البيض فقط “لذا فإن فهم كيفية ارتباط حجم الجسم بالطبقة ليس مجرد مسألة مورفولوجيا. إنه يفتح الباب لفهم كيفية تطور الأدوار الاجتماعية، ووظيفة الدماغ، وديناميكيات المستعمرة وتطورها معًا”.