هل نرسل مسبارًا إلى ثقب أسود قريب؟

في لحظة تتلاشى فيها الحدود بين الواقع والخيال، تقترح دراسة حديثة نُشرت في دورية “iScience” تنفيذ مهمة بين النجوم، تستهدف أحد أقرب الثقوب السوداء إلى كوكب الأرض.
ورغم أن هذه الفكرة قد تبدو للوهلة الأولى كأنها قادمة من رواية خيال علمي، فإن الفريق العلمي الذي قاد الدراسة، بتمويل وبحث من جامعة فودان الصينية، يؤكد أن تنفيذ هذه المهمة الطموحة ممكن تقنيًا في العقود المقبلة.
تهدف المهمة إلى إرسال مسبار فضائي صغير إلى ثقب أسود يعتقد الباحثون أنه قد يكون على بعد 20 إلى 25 سنة ضوئية فقط، وذلك من أجل إجراء قياسات غير مسبوقة حول طبيعة الجاذبية في أقصى حالاتها، واختبار صحة النظرية النسبية العامة لأينشتاين في بيئة لا يمكن محاكاتها على الأرض.
يقول البروفيسور كوزيمو بامبي، أستاذ الفيزياء النظرية بجامعة فودان، في تصريحات حصرية لموقع الجزيرة نت: “إذا وُجد ثقب أسود على هذا القرب، فإن المسألة تصبح فقط مسألة وقت قبل أن نرسل مسبارًا لدراسته. المعلومات التي سنحصل عليها ستكون ثمينة للغاية، ولا يمكن الوصول إليها بوسائل أخرى”.
تشكل الثقوب السوداء أحد ألغاز الفيزياء الحديثة، فهي مناطق ذات كثافة هائلة وقوة جذب لا يُفلت منها شيء، حتى الضوء. ويُعرف الحد الخارجي لهذه الثقوب باسم “أفق الحدث”، والذي يُعتبر “بابًا بلا عودة”، حيث تختفي فيه كل المعلومات، بحسب النظرية النسبية العامة.
لكن هذه النظرية ليست الوحيدة في ساحة الفيزياء؛ إذ تقترح نظرية بديلة تُعرف بـ”كرة الفراء” (fuzzball)، وهي جزء من نظرية الأوتار. وتفترض هذه النظرية أن الثقب الأسود ليس نقطة انعدام، بل جسم معقد من خيوط مضغوطة بشدة، تمثل الطاقة والمعلومات الناتجة عن انهيار النجوم.
وفي هذا النموذج، لا توجد نقطة تختفي فيها المعلومات إلى الأبد، بل تتفاعل المادة الساقطة مع السطح الكثيف المحيط بالثقب، ما يفتح بابًا واسعًا لفهم جديد تمامًا لطبيعة الكون.
لكن كيف يمكننا الوصول إلى ثقب أسود يبعد عشرات السنين الضوئية؟
يقول بامبي إن الطرق التقليدية، مثل الصواريخ الكيميائية أو النووية، غير مناسبة تمامًا لهذه الرحلة، لكن هناك تقنية واعدة:
مركبات نانوية مدفوعة بأشعة ليزر قوية من الأرض.
تتكون هذه المركبات من شريحة صغيرة لا يتجاوز وزنها غرامًا واحدًا، مزودة بأجهزة علمية دقيقة، ومثبتة على شراع خفيف يعكس شعاع ليزر أرضي. ويمكن لتلك التقنية أن تدفع المسبار ليصل إلى سرعة ثلث سرعة الضوء، مما يجعل الوصول إلى ثقب أسود قريب خلال 60–70 سنة أمرًا واقعيًا.
وتكمن الفكرة الأساسية في هذه المهمة في دراسة إشارات المسبار عندما يقترب من أفق الحدث. فوفقًا للنظرية النسبية، ستتلاشى الإشارة تدريجيًا، أما إذا اختفت فجأة، كما تفترض نماذج مثل “كرة الفراء”، فسيكون لذلك أثرٌ هائل على فهمنا للجاذبية والزمان والمكان.
من الناحية التقنية، بناء مصفوفة ليزر أرضية لتسريع هذه المركبات قد يكلف تريليون يورو بالتكنولوجيا الحالية. لكن بامبي يشير إلى أن التكاليف تنخفض بسرعة، وقد تصل خلال العقود الثلاثة القادمة إلى مليار يورو فقط، أي ما يعادل كلفة بعثة فضائية متقدمة.
أما زمن المهمة الكامل، من لحظة الإطلاق إلى إرسال البيانات، فقد يمتد من 80 إلى 100 سنة، ما يعني أن معظم من سيبدأ العمل على المشروع اليوم، لن يكون موجودًا عند نهايته.
لكن بامبي لا يرى في ذلك عائقًا، ويقول: “نحن بحاجة لرؤية طويلة المدى. علينا أن نعمل من أجل مستقبل البشرية، لا من أجل مصالحنا الآنية فقط”.
نجاح هذه المهمة سيمنح البشرية أول فرصة لإجراء قياسات مباشرة في أقوى حقل جاذبية معروف، وقد يؤدي إلى تأكيد أو نسف النظرية النسبية التي صمدت منذ عام 1915، أو حتى فتح باب فيزياء جديدة كليًا.
إذا كان أقرب ثقب أسود، كما يرجح بعض العلماء، يبعد أقل من 20 سنة ضوئية، فإن المهمة لن تكون خيالًا علميًا بعد الآن، بل بداية فصل جديد في استكشاف الكون.
الواضح حتى الآن، أن العلم قد خط أول خطوة نحو النجوم، في رحلة لا تهدف فقط لاكتشاف ما يوجد خارج حدودنا، بل لفهم من نكون نحن، في هذا الكون الواسع والغامض.